سورة الإسراء - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


يقول الحقّ جلّ جلاله: {قلْ} يا محمد: {لو كان معه} في الوجود {آلهةٌ} تستحق أن تُعبد، {كما تقولون} أيها المشركون، أو كما يقول المشركون أيها الرسول، {إِذًا لابتَغَوا}؛ لطلبوا {إلى ذي العرش سبيلاً}؛ طريقًا يقاتلونه. وهذا جواب عن مقالتهم الشنعاء. والمعنى: لطلبوا إلى من هو ملك الملك طريقًا بالمعاداة، كما تفعل الملوك بعضهم مع بعض. وهذا كقوله: {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} [المؤمنون: 91]. وقيل: لابتغوا إليه سبيلاً بالتقرب إليه والطاعة؛ لعلمهم بقدرته، وتحققهم بعجزهم، كقوله: {أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة} [الإسرَاء: 57]. ثم نزّه نفسه عن ذلك فقال: {سبحانه}؛ تنزيهًا له {وتعالى}؛ ترافع {عمّا يقولون} من الشركاء، {عُلوًا}؛ تعاليًا {كبيرًا} لا غاية وراءه. كيف لا؛ وهو تعالى في أقصى غاية الوجود! وهو الوجوب الذاتي، وما يقولونه؛ من أنَّ له تعالى شركاء وأولادًا، في أبعد مراتب العدم، أعني: الامتناع؛ لأنه من خواص المحدثات الفانية.
{يسبح له السماواتُ السبعُ} أي: تنزهه، {والأرضُ ومَن فيهن} كلها تدل على تنزيهه عن الشريك والولد، {وإِنْ من شيء إِلا يُسبح بحمده}؛ ينزهه عما هو من لوازم الإمكان، وتوابع الحدوث، بلسان الحال، حيث تدل بإمكانها وحدوثها على الصانع القديم، الواجب لذاته. قاله البيضاوي. وظاهره: أن تسبيح الأشياء حَالِيُّ لا مقالي، والراجح أنه مقالي. ثم مع كونه مقالياً لا يختص بقول مخصوص، كما قال الجلال السيوطي، أي: تقول: سبحان الله وبحمده. بل كل أحد يُسبح بما يناسب حاله. وإلى هذا يرشد كلام أهل الكاشف، حتى ذكر الحاتمي: أن من لم يسمعها مختلفة التسبيح لم يسمعها، وإنما سمع الحالة الغالبة عليه. وورد في الحديث: «ما اصطيد حوت في البحر، ولا طائر يطير، إلاَّ بما ضيع من تسبيح الله تعالى» وفي الحديث أيضًا: «ما تطلع الشمس فيبقى خلق من خلق الله، إلا يسبح الله بحمده، إلا ما كان من الشيطان وأعتى بني آدم».
ومذهب أهل السنة: عدم اشتراط البِنية للعلم والحياة، فيصح الخشوع من الجماد، والخشية لله والتسبيح منه له. وقد قال ابن حجر على حديث حنين الجذع: فيه دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكًا كالحيوان، بل كأشرف الحيوان، وفيه تأييد لمن يحمل قوله: {وإِن من شيء إِلا يُسبح بحمده} على ظاهره. اهـ.
وقال ابن عطية: اختلف أهلُ العلم في هذا التسبيح؛ فقالت فرقة: هو تجوز، ومعناه: أن كل شيء تبدو فيه صفة الصانع الدالة عليه، فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر. وقالت فرقة: قوله: {من شيء}: لفظه عموم، ومعناه الخصوص في كل حي ونام، وليس ذلك في الجمادات الميتة.
فمن هذا قول عكرمة: الشجرة تُسبح، والاسطوانة لا تُسبح. قال يزيد الرقاشي للحسن- وهما في طعام، وقد قدّم الخِوان-: أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد؟ فقال: قد كان يُسبح مدة. يريد أن الشجرة، في زمان نموها واغتذائها، تُسَبح. وقد صارت خوانًا أو نحوه، أي: صارت جمادًا. وقالت فرقة: هذا التسبيح حقيقة، وكل شيء، على العموم، يُسبح تسبيحًا لا يسمعه البشر ولا يفقهه، ولو كان التسبيح ما قاله الآخرون؛ من أنه أثر الصنعة، لكان أمرًا مفهومًا، والآية تنطق بأنه لا يُفقه، وينفصل عنه؛ بأن يريد بقوله: {لا تفقهون}: الكفار والغفلة، أي: أنهم يُعرضون عن الاعتبار؛ فلا يفقهون حكمة الله في الأشياء. اهـ.
قال شيخ شيوخنا؛ سيدي عبد الرحمن العارف: وربما يدل للعموم تسبيح الحصى في يده- عليه الصلاة والسلام-، وكذا حنين الجذع ومحبة أُحد، وكذا تسبيح الطعام. وأما التخصيص بالناميات؛ من نبات غير يابس، وحجر متصل بموضعه، فهو خصوص تسبيح بالاستمداد إلى الحياة، ولا ينتفي مطلق الاستمداد؛ لأن الجماد يستمد الوجود وبقاءه من الله، فهو عام، وقد قال تعالى: {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ} [سَبَأ: 10]، وتدبر حنين الجذع. اهـ. وسيأتي في الإشارة بقية كلام عليه، وقال البيضاوي أيضًا في قوله: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} أيها المشركون؛ لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم التسبيح. ويجوز أن يحمل التسبيح على المشترك من اللفظ والدلالة؛ لإسناده إلى ما يتصور منه اللفظ، وإلى ما لا يتصور منه، وعليهما، أي: ويحمل- عند من جوز إطلاق اللفظ على معنييه. اهـ.
{إِنه كان حليمًا}؛ حيث لم يُعاجلكم بالعقوبة، مع ما أنتم عليه من موجباتها؛ من الإعراض عن النظر في الدلائل الواضحة، الدالة على التوحيد، والانهماك في الكفر والإشراك، {غفورًا} لمن تاب منكم. وبالله التوفيق.
الإشارة: كل ما دخل عالم التكوين من العرش إلى الفرش، أو ما قُدر وجوده من غيرهما؛ كله قائم بين حس ومعنى، بين عبودية وربوبية، بين قدرة وحكمة. فالحس محل العبودية، فيه تظهر قهرية الربوبية، والمعنى هو أسرار الربوبية القائمة بالأشياء، فالأشياء كلها تنادي بلسان معناها، وتقول: سبحانه ما أعظم شأنه، ولكن لا يفقه هذا التسبيح إلا من خاض بحار التوحيد، وغاص في أسرار التفريد.
فالأشياء ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، قائمة من حيث حسها، ممحوة من حيث معناها، ولا وجود للحس من ذاته، وإنما هو رداء لكبرياء ذاته. وفي الحديث، في وصف أهل الجنة: «وليس بينهم وبين أن ينظروا إلى الرحمن إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» فمن خرق حجاب الوهم، وفنى عن دائرة الحس في دار الدنيا، لم يحتجب الحق تعالى عنه في الدارين طرفة عين. فتحصل أن الأشياء كلها تُسبح من جهة معناها بلسان المقال، ومن جهة حسها بلسان الحال، وتسبيحها كما ذكرنا. ولا يذوق هذا إلا من صحب العارفين الكبار، حتى يخرجوه عن دائرة حس الأكوان إلى شهود المكون. وحسب من لم يصحبهم التسليم، كما قال القائل:
إذا لَمْ تَرَ الْهِلاَلَ فَسَلِّمْ *** لأُناسٍ رَأَوْهُ بِالأبْصارِ
والله تعالى أعلم.


قلت: {أن يفقهوه}: مفعول من أجله، أي كراهة أن يفقهوه، و{نفورًا}: مصدر في موضع الحال. والضمير في {به}: يعود على ما، أي: نحن أعلم بالأمر الذي يستمعون به من الاستهزاء والسخرية.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإِذا قرأتَ القرآنَ} الناطق بالتنزيه والتسبيح، ودعوتهم إلى العمل بما فيه؛ من التوحيد، ورفض الشرك، وغير ذلك من الشرائع، {جعلنا} بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على دواعي الحِكَمِ الخفية {بينَك وبين الذين لا يُؤمنون بالآخرة}، خَصَّ الآخرة بالذكر من بين سائر ما كفروا به؛ دلالة على أنها معظم ما أمروا بالإيمان به، وتمهيدًا لما سينقل عنهم من إنكار البعث، أي: جعلنا بينك وبينهم {حجابًا} يمنعهم عن فهمه والتدبر فيه، {مستورًا} عن الحس، خفيًا، معنويًا، وهو الران الذي يَسْبَحُ على قلوبهم من الكفر، والانهماك في الغفلة. أو: ذا ستر، كقوله: {وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريَم: 61]، أي: آتيًا، فهو ساتر لقلوبهم عن الفهم والتدبر.
نَفَى عنهم فقه الآيات، بعد ما نفى عنهم فقه الدلالات المنصوبة في الأشياء؛ بيانًا لكونهم مطبوعين على الضلالة، كما صرح به في قوله: {وجعلنا على قلوبهم أَكِنَّةً}؛ أغطيةً تكنها، وتحول بينها وبين إدراك الحق وقبوله. فعلنا ذلك بهم؛ كراهة {أنْ يفقهوه}، {و} جعلنا {في آذانهم وقرًا}؛ ثقلاً وصممًا يمنعهم من استماعه. ولمَّا كان القرآن معجزًا من حيث اللفظ والمعنى، أثبت لمنكريه ما يمنع عن فهم المعنى وإدراك اللفظ. قاله البيضاوي.
{وإِذ ذكرتَ ربك في القرآن وحده} أي: واحدًا غير مشفوع به آلهتهم، {وَلَّوْا على أدبارهم نُفورًا}؛ هَرَبا من استماع التوحيد، والمعنى: وإذا ذكرت في القرآن وحدانية الله تعالى، فرَّ المشركون عن ذلك؛ لما في ذلك من رفض آلهتهم وذمها. قال تعالى: {نحن أعلم بما يستمعون به} أي: بالأمر الذي يستمعون به؛ من الاستهزاء، وكانوا يستمعون القرآن على وجه الاستهزاء، {وإِذْ هم نجوى} أي: ونحن أعلم بغرضهم، حين همَّ جماعة ذات نجوى، يتناجون بينهم ويخفون ذلك. ثم فسر نجواهم بقوله: {إذْ يقول الظالمون}، وضع الظالمين موضع الضمير؛ للدلالة على أن تناجيهم بقولهم هذا محض ظلم، أي: إذ يقولون: {إِن تتبعون إِلا رجلاً مسحورًا}؛ مجنونًا قد سُحر حتى زال عقله.
{انظر كيف ضربوا لك الأمثال}، مثلوك بالساحر، والشاعر، والكاهن، والمجنون، {فضلُّوا} عن الحق في جميع ذلك، {فلا يستطيعون سبيلاً} إلى الهدى، أو إلى الطعن فيما جئتَ به بوجه؛ فهم يتهافتون، ويخبطون، كالمتحير في أمره لا يدري ما يفعل. ونزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه من الكفار.
{وقالوا أئذا كنا عظامًا ورُفاتًا أئنا لمبعوثون خلقًا جديدًا}، أنكروا البعث، واستبعدوا أن يجعلهم خلقًا جديدًا، بعد فنائهم وجعلهم ترابًا. والرفات: الذي بلي، حتى صار غبارًا وفتاتًا. و {أئذا}: ظرف، والعامل فيه: ما دل عليه قوله: {لمبعوثون}، لا نفسه؛ لأن ما بعد إن والهمزة، لا يعمل فيما قبله، أي: أنُبعث إذا كنا عظامًا... الخ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد تقدم في سورة الأنعام تفسير الأكنة التي تمنع من فهم القرآن والتدبر فيه، والتي تمنع من الشهود والعيان، فراجعه، إن شئت. وفي الآية تسلية لمن أوذي من الصوفية فرُمِيَ بالسحر أو غيره. وبالله التوفيق.


قلت: {قريباً}: خبر كان، أو ظرف له؛ على أن كان تامة، أي: عسى أن يقع في زمن قريب. و{أن يكون}: إما: اسم {عسى} وهي تامة، أو خبرها، والاسم مضمر، أي: عسى أن يكون البعث قريبًا، أو: عسى أن يقع في زمن قريب. و{يوم يدعوكم}: منصوب بمحذوف؛ اذكروا يوم يدعوكم. أو: بدل من {قريب}؛ على أنه ظرف. انظر أبا السعود. و{بحمده}: حال من ضمير {تستجيبون}، أي: منقادين له، حامدين له، لما فعل بكم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قلْ} يا محمد لمن أنكر البعث: {كُونوا حجارة أو حديدًا أو خلقًا} آخر {ممَا يكْبُرُ} أي: يعظم {في صدوركم} عن قبول الحياة، فإنكم مبعوثون ومُعادون لا محالة، أي: لو كنتم حجارة أو حديدًا، أو شيئًا أكبر عندكم من ذلك، وأبعد من الحياة، لقدرنا على بعثكم؛ إذ القدرة صالحة لكل ممكن. ومعنى الأمر هنا: التقدير، وليس للتعجيز، كما قال بعضهم. انظر ابن جزي، {فسيقولون مَن يُعيدنا} إلى الحياة مرة أخرى، مع ما بيننا وبين الإعادة، من مثل هذه المباعدة؟ {قل الذي فطركم أول مرةٍ} ولم تكونوا شيئًا؛ لأن القادر على البدء قادر على الإعادة، بل هي أهون، {فسيُنْغِضُون}؛ يُحركون {إِليك رؤوسَهم}؛ تعجبًا واستهزاءً، {ويقولون}؛ استهزاء: {متى هو} أي: البعث، {قل عسى أن يكون قريبًا}، فإنَّ كل ما هو آتٍ قريب.
واذكروا {يومَ يدعوكم}؛ يناديكم من القبور على لسان إسرافيل، {فتستجيبونَ} أي: فتبعثون من القبور {بحمده}؛ بأمره، أو ملتبسين بحمده، حامدين له على كمال قدرته، عند مشاهدة آثارها، ومعاينة أحكامها، كما قيل: إنم يقومون ينفضون التراب عن رؤوسهم، ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، {وتظنون إِن لبثتم}؛ ما لبثتم في الدنيا {إِلا قليلاً}؛ لما ترون من الهول، أو تستقصرون مدة لبثكم في القبور، كالذي مرَّ على قرية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: مَن كان قلبه أقسى من الحجارة والحديد، واستغرب أن يُنقذه الله من شهوته، وأن يخرجه من وجود جهالته وغفلته، فقُل لهم: كونوا حجارة أو حديدًا، أو خلقًا أكبر من ذلك، فإن الله قادر على أن يُحيي قلوبكم بمعرفته، ويُلينها بعد القساوة، بسبب شرب خمرته. فسيقولون: من يُعيدنا إلى هذه الحالة؟ قل: الذي فطركم على توحيده أول مرة، حين أقررتم بربوبيته، يوم أخذ الميثاق. فسَيُنْغضون إليك رؤوسهم؛ تعجبًا واستغرابًا، ويقولون: متى هو هذا الفتح؟! قل: عسى أن يكون قريبًا؛ يوم يدعوكم إلى حضرته بشوق مقلق، أو خوف مزعج، بواسطة شيخ عارف، أو بغير واسطة، فتستجيبون بحمده ومنته، وتظنون إن لبثتم في أيام الغفلة إلا قليلاً؛ فتلين قلوبكم، وتطمئن نفوسكم، وتنشرح صدوركم، وتحسن أخلاقكم، فلا تخاطبون العباد إلا بالتي هي أحسن.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8